هذا غيضُ من فيض المناخ الفكري الذي كان
سائداً في الدول الغربية إبان ربيعها الثوري, مناخ جعل من الممكن ترجمة الحراك
الشعبي النابع من الاضطهاد والنقمة على أنظمة حكم فاسدة إلى تغيّر سوسيو-إقتصادي يصب في مصلحة الجماهير رغم
معارضة القوى الرجعية له, والاهم انه يقدم تفسيراً مقنعاً لإشكالية فشل الربيع
بنسخته العربية وتحوله من تحرك مطلبي في وجه البطالة والجوع والفقر إلى مجموعة
حركات أصولية تستمد
عقيدتها من العنف البربري.
مقومات الثورة
ليست الثورة وليدة اللحظة, بل هي النتيجة
الحتمية لاجتماع عدة عوامل على مدى عقود من الزمن تراكمت باستمرار حتى وصلت إلى
درجة الغليان, عندها يبدا
المجتمع بالانتقال من مرحلة التغيّر الكمّي إلى مرحلة التغيّر الكيّفي أو النوعي
فتنفجر إلى العلن التناقضات الدفينة بشكل شبه عفوي وتحدث تغيّرأً جّذرياً في أساليب الحياة. فقد
شهد التاريخ البشري عدد كبير من الثورات, منها ما كان اقتصادي كالثورة الصناعية
1760 ومنها ما كان سياسي المنشئ كالثورة الامركية ضد الاستعمار البريطاني 1776 كلها
ساهمت في دفع عجلة التطور إلى الامام
وتحسين الظروف المعيشية لشعوبها. لكن التعريف المعجمي للثورة يلحظ كذلك امكانية أن يكون هذا التغيّر إلى
ألأسوء فيقذف بالدول في براثم التخلف مستغلاً الفوضى التي يولدها انهيار الاطر السابقة وهو ما حدث للدول
العربية, فبعضها اطاح بديكتاتور
عسكري ليقيم مكانه ديكتاتور آخر, وبعضها لايزال يترنح في صراعات قبلية طائفية,
أما القاسم المشترك بينها جميعاّ هو ألإفلاس الفكري وعدم قدرة النخب الثقافية
العربية على استنباط الحلول. فلكي تنجح كل
ثورة يجب توفر عاملين اساسيان
هما الكفاح الشعبي -الكفيل بتامين الزخم للتحرك- والقاعدة الفكرية التي تلعب دورأً مزدوجاً اولاً كبوصلة موجّهة للجماهير وثانياً
كمصدر لملء الفراغ الذي يخلفه زوال تظام
الحكم السابق. ففي كل الثورات التي مرّت على الدول العربية لم تتوفر القاعدة
الفكرية. في أفضل الحالات تم استنساخ التجارب الأوروبية ولا سيما الأفكار
الماركسية والاشتراكية التي لم تتناسب مع الواقع الاقتصادي الرجعي لهذه الدول, من
هنا برزت التيارات الاسلامية المتشددة
كنتيجة حتمية للفراغ ألأيديولوجي الذي خلفه ضعف الكادرات الثقافية. نحن هنا لا
ننكر وجود تيارات علمانية وليبرالية عربية ذات افكار اصلاحية كان لها دور بارز في نشر
مفاهيم الحداثة والاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي لإشعال فتيل الثورات,
لكنّنا ننتقد تشرذم هذه التيارات وفشلها في لعب الدور المفصلي الموكل اليها بسبب اعتمادها المفرط على الغرب
كمصدر لهذه الأفكار عوضاُ عن اللجوء إلى الابتكار بما يتناسب وخصوصية المجتمعات
العربية.
الارث العربي
لم يأتي تنظيم داعش من العدم كما يظن البعض, فمراجعة
سريعة للارث العربي المعاصر
تنبئ ابسط العقول بحتمية ظهوره. الفكر ليس ألا انعكاس للواقع المادي الذي يعيشه
ألإنسان وحين يقتصر هذا الواقع طوال قرن من الزمن على أنظمة قمعية تمعن قتلاّ ووحششية يظهر بوضوح من هو ألأب الروحي لهذا التنظيم. كذلك نستشرف إرهاصاته
من خلال ألإنتاج الادبي والثقافي العربي الذي بات يدور
في حلقة مفرغة من السفسطائية والتزمّت الديني فتكاد الأسماء العربية تنقرض من لوائح ألإنجارات العالمية باستثناء أولئك
الذين نحتضنهم الدول الأجنبية,
ويصبح الشغل الشاغل للكاتب العربي بعد أن كان منارة الفكر والحداثة أن يبحث في
فتاوى الرسائل القصيرة أو أحكام
النكاح, يقابله جمهور لا يقرأ, واذا
قرأ لا يفقه, بالكاد يشتري
كتاباً عن الطبخ كل بضعة سنوات.
يقول الأديب الألماني غوته حين سئل عن تطور
الشعوب وتخلفها أن تراجع ألأدب مؤشر على تراجع ألأمم, إذا كانت هذه هي الحالة فنحن
اليوم نعيش زمن الثورة البلهاء التي تسيرها الغريزة, التي لا تتعدى كونها صرخة غضب
في وجه ظلم الحكام والتاريخ والجغرافية, أما أن تعقل هذه الثورة فتخلع عنها عباءة
الموت والحقد وتستجيب إلى تطلعات الملاين
التي لا تحلم بموت فراشة فهذا يبقى مستحيلاً ما لم تشهد ألأمة العربيّة ربيعاّ
يكون فكرياّ قبل أن يكون ثورياً فيخلق التصدعات الكافية لتبصر مطالب الثورات النور.
فؤاد جابر
No comments:
Post a Comment